• 2022-04-23

لِمَ عُني علماؤنا بالرياضيات 2/2

تقدَّم في الجزء الأول من هذا المقال ذكر مجموعة من علماء الرياضيات، وليس مقصودنا حصْر علماء الإسلام المهتمين بالرياضيات والعلوم المختلفة، ولكن حسبنا الوقوف على طائفة أخرى من الأمثلة؛ ليتبين منها أن منطلق اهتمام علمائنا بالرياضيات - (ابتداءً من أهم فروعه عندهم وهو علم الحساب) - فريضة دينية، هي معرفة علم الفرائض والمواريث الذي يقوم على الحساب. فهذا إمام الرياضيين العرب محمد بن موسى الخوارزمي - مؤسس علم الجبر (المتوفى عام 232هـ) - وضع مصنَّفه الموسوم بـ(الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة)؛ قاصدا ابتكار أسس علمية لحساب المواريث. ولم يكن هذا وحيد السبب في عناية المسلمين بالرياضيات، بل تعدَّاه إلى ضرورات أخرى، فقد رُوِي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (المتوفى عام 204هـ) أنه قال: "مَن تعلَّم الحساب جَزُل رأيُه". ولا غرو فالدراسات الحديثة توافق رأي الإمام الشافعي؛ فإنها أثبتت أن الرياضيات تحفِّز خلايا المخ، وتدفعها نحو مزيد من النشاط؛ ولذلك يوجه الأطباء الناس إلى القيام بحل تمارين رياضية يوميا إنْ أمكن.
وعَدّ الوزير العالم ابن هبيرة ( المتوفى عام 560هـ) تعلُّم الحساب والطب والفلاحة من فروض الكفاية.
ولا مناص – في مرورنا بأهمية علم الحساب وسبب عناية المسلمين به - من الوقوف على رأي عظيم العلماء العلامة ابن خلدون (المتوفى عام 808هـ) فقد عُني - في مقدمته العظيمة - بعلم الحساب عناية بالغة ذاهباً إلى أن "صناعة الحساب حادثة احتِيْجَ إليها للحساب في المعاملات، وألَّف الناس فيها كثيراً، وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. ومِن أحسنِ التعليم عندهم الابتداءُ بها؛ لأنها معارف متَضِحة، وبراهينها منتظمة؛ فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء دَرِبٌ (أي معتاد) على الصواب. وقد يقال: مَن أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، إنه يغلب عليه الصدق؛ لِما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس، فيصير ذلك له خُلُقا، ويتعوَّد الصدق ويلازمه مذهبا".
ويقول الإمام المفسر، المحدث، النحوي، الرياضي جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى عام 864هـ) في مقدمة كتابه (فتح رب البرية على متن السخاوية في علم الحساب) "اعلم أن الحساب ركن من أركان الدين، فهو علم قديم، وركن شديد، فالأمم - مع اختلافها - متفقة على فضله، متطفِّلة على عقله". ثم يمضي ناقلاً شواهد على كلامه من أقوال السابقين من الأئمة. وقد قيل عن الإمام المحلي إنه كان حادَّ الذكاء، حادَّ الفهْم، محقِّق عالم بالمنطق والحساب.
هذا وقد كَثُر علماء الرياضيات في الحضارة الإسلامية كثرة بالغة للسبب المتقدم آنفاً، ولسوف نشير إلى مزيد منهم فيما يأتي:
فمنهم محمد بن أحمد بن محمد الحنبلي الأنماطي، المعروف، بابن شعلة، (المتوفى عام 656هـ) وهو من المؤلفين في علم الحساب، وكان شاباً فاضلاً، صالحاً، زاهداً، متواضعاً، عالما بالقراءات، محقِّقاً، مُفْرِط الذكاء، ثاقب الفهْم، ذا معرفة تامة بالعربية.
ومنهم ابن الهائم (المتوفى عام 815هـ) الذي ابتكر طرقا ميسَّرة لعمليات ضرْب الأعداد، وهو من مشاهير الرياضيين في التاريخ الإسلامي بتأكيد من المسلمين، وإقرار من الغربيين. وقد قيل عنه إنه كان علَّامة في الفقه وفرائضه، والحساب وأنواعه، والنحو وإعرابه، ومهَر فيها كلها. وانتهت إليه الرياسة في الحساب والفرائض، وجمع في ذلك عدة تآليف، كان عليها مُعوَّل الناس من بعده. وأما في خاصة نفسه فقد قيل عنه إنه كان خيِّراً، مهاباً، معظَّماً، قوِّماً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مسموعاً كلامه.
ومنهم محمد بن علي بن محمد بن يعقوب شمس الدين القاياتي الشافعي (المتوفى عام 850هـ) قاضي القضاة، ومحقق الوقت، وعلَّامة الآفاق، برَع في الفقه والعربية، وشارك في عدة فنون، وكان مرجعاً في غالب العلوم النقلية والعقلية
وكان ابن المجدي أحمد بن رجب بن طَيْبُغا (المتوفى عام 850هـ) عالماً بالحساب والفرائض والفلك. وقيل إنه كان مُفْرِط الذكاء. أشيرَ إليه بالتقدم، وصار رأس الناس في أنواع الحساب والهندسة والهيئة والفرائض وعِلْم الوقت بلا منازع.
ومن مشاهير الرياضيين العرب علي بن محمد بن علي القلصادي (المتوفى عام 891هـ). وكان إماما في الحساب، والفرائض، والفقه، والنحو. وله عدة مؤلفات في الرياضيات، منها "شرح الأرجوزة الياسمينية" في الجبر والمقابلة، و"قانون الحساب"، و"كشف الحساب" رسالة في الجبر، وغيرها كثير، وقد اطَّلعتُ على بعض المخطوطات من أعماله في الرياضيات.
يتبين من هؤلاء الأعلام الرياضيين الذين سبقت الإشارة إليهم أنهم أصوليون وفقهاء ونحويون، وأنهم كانوا أشد حرصاً على معرفة علم الحساب والتأليف فيه، وأزعم أنك لا تكاد تجد رياضيا إلا وهو فقيه، أصولي، فرَضي، نحوي، ولو تتبعنا تراجم أقرانهم من علماء الإسلام - في مصادر التراث الإسلامي - لتبيَّن لنا أنهم كانوا من أذكياء الأمة، والأمثلة المتقدمة شاهدة على هذه الحقيقة.